على قارعة الطريق، أو في المصحِّ أو السجن أو المقبرة، ستكون النهاية المحتومة لكل من يتورَّط في عالم المخدِّرات، فخسائرهم الصحية أو المادية أو الاجتماعية، أو النفسية، أو جميعها، تسلبهم حريتَهم وإرادتَهم وحياتَهم، ومَن حولهم، فخلف جدران مغلقة وداخل دهاليز لا تصل إليها الشمس، تتوارى وراء المخدرات قصصٌ كثيرة يتناقلها الناس في يومياتنا حول من يزرعها، ويصنعها ويتاجر بها، ويتعاطاها ويروِّجها، ومن أعيته آثارُها.
وقد يسهل تحديد الجاني والمجني عليه في كثير من القضايا، إلا أن الحكم على من تم تورَّطه في إدمان المخدِّرات وترويجها، وما زال طفلًا، يتطلَّب فهم قصته، التي ربما تختلف في تفاصيلها وظروفها عن غيرها.
حكاية ملفنا لهذا العدد تدور حول الطفل “نزار” ذي الخامسةَ عَشَرَ ربيعًا الذي استغلَّ ضعفَه وفقرَه أحدُ تجار المخدِّرات الذين تجرَّدوا من كل معاني الرحمة والإنسانية؛ ليجعل منه مجرمًا بترويجها وتوصيلها.
تفاصيل الحكاية
شكل الفقر أبرز الأسباب التي دفعت “نزار” للعمل مروجَ مخدِّرات، وجعلت منه طُعمًا سهلًا لأحد تجارها الموزعين منعدمي الضمير، لحاجته إلى الأموال واضطراره إلى العمل لإعالة أسرة كبيرة والمساهمة في توفير احتياجاتهم، كان همُّه سابقًا لعبة صغيرة يلهو بها أو أن يذهب إلى المدرسة كباقي الأطفال، ولكن قسوة الحياة أجبرته على ترك عالم الطفولة بأحلامه البريئة والولوج إلى عالم مليء بالصعوبات والمشقات.
أسرة “نزار” تتكون من سبعة أفراد: الأم، والأب، والأبناء.. أكبرهم لم يتجاوز التاسعةَ عشَر من عمره، وأصغرهم لم يتجاوز الثالثة، ويتوسَّطهم نزار، تعيش هذه الأسرة في بيت قديم هشٍّ، كان الوالدان يتطلعان لرؤية أولادهم، وبخاصة “نزار”، في مراحل متقدمة من التعليم، ويحلمان دائمًا بأن يحققا لهم ما لم يستطيعا تحقيقَه لنفسَيْهما، ولكن لم يتمكنا من توفير احتياجاتهم ومستلزماتهم التعليمية، مما جعل تلك الأحلام تتحطم شيئًا فشيئًا، ومن ضمنهم “نزار”، فالبداية بتسرُّبه من المدرسة، ومن ثم تركُها سعيًا إلى العمل وتوفير الأموال، وآخرها العمل في أمور خارجة عن القانون.
غالبًا ما يمضي الأطفال في طريق الإدمان بعدما يستخدمهم الكبار كأدوات مُساعِدة لإبعاد الشُبه عنهم في عملية البيع والشراء والترويج والمتاجرة، وهذا ما حدث مع “نزار”، حيث بدأت حكايته مع المخدرات عندما كان يقف حزينًا تحت أشعة الشمس الحارقة يلتقط علب المشروبات المعدنية الفارغة من الشوارع ليبيعها بمبلغ زهيد، يلبي ولو جزءًا بسيطًا من احتياجاته، اتجه نحوه شابٌّ في الثلاثينيات من عمره، يُدَعَى “عماد”، وأخذ يدسُّ السمَّ بالعسل ليوقعه في المستنقع المحظور عبر سؤاله عن وضعه الاجتماعي والاقتصادي وإمكانية مساعدته بتوفير أموال له بسهولة دون تعب، وأقنعه بإيصال أمانة لأحد الأشخاص مقابل مبلغ زهيد، المبلغ بالنسبة لنزار مقابل المجهود الذي سيبذله كان كبيرًا، فوافق على الفور، وهو لا يدري أن ما يحمله “مخدِّرات” ستفتك به، وتنهي مستقبله وصحته، وبالفعل لقد انحرم طفولتَه بعد استغلاله في جريمة إيصال هذه السموم التي مسَّت كرامته وأعاقت قدرته على التمتع بحقوقه الأساسية. سهولة التوصيل والعَوَز والحاجة جعلت “نزار” يعيد الكرة، وعلم أن ما يوصله “مخدرات”، ولكنه استمر في ذلك بعدما أغواه “عماد”.. ذلك الشيطان الذي وصل إلى أبشع مراحل اللاإنسانية مستغلًا ضعفَ طفلٍ وفقرَه ليروِّج بضاعتَه.
لم يكتفِ “عماد “باستخدام “نزار” لترويج المخدرات، بل ساعده على إدمانها ليسلبه كلَّ شيء حتى تفكيرَه، ويترك آثارًا تلازمه بقية حياته على المستويَيْن النفسي والجسدي، وليجعل منه مجرمًا مدربًا، وله خبرة في عدة أفعال خارجة عن القانون.
الحيل التي استخدمها “عماد” وعلَّمها “نزارًا” لتضليل العناصر الأمنية وإبعاد أعينها عن نشاطهم لم تنجح، خاصة بعد وصول إخبارية لهم بأن هناك من يروج للمخدرات، وبالفعل تحركت وحدة مكافحة المخدرات نحو المكان لتجد “نزار” في المكان، وبحوزته موادُّ مخدرة بقصد الاتِّجار والتعاطي، وأموالٌ اعترف بأنه حصل عليها مقابل توصيل “حشيش” لأحد الأشخاص، وبعد التحقيق معه أسدل الستار عن شخصية “عماد” المجرم الأساسي في القضية، وتم القبض عليه والتحقيق معه ليظهر أنه من أصحاب السوابق بالمخدرات وغيرها من الجرائم.
حققت النيابة مع نزار بحضور “مراقب السلوك”، وأودعت لائحة اتهام بحقِّه لدى محكمة الأحداث، وتم نقله إلى مؤسسة الربيع.
حينما تصبح حياة الأطفال القُصَّر في خطر، وجب دقُّ ناقوس الخطر، وهذا يشي بضرورة الوقوف ضد من يريد أن يهلك فلذات أكبادنا، من الذين لم يجدوا إلا هذه الطريقة لجمع المال، من دون خوف، ولا وجل، والغريب أنهم يروجون لها في الحي الذي يسكنون فيه، وربما يتعاطاها حتى إخوانُهم من العائلة نفسها، بعد أن عميت بصائرهم قبل أبصارهم، فالأمر ليس هينًا حينما تقف وجهًا لوجه أمامهم لأنهم يعتقدون أنك تفسد تجارتهم، وهم لا يدركون أنهم يتاجرون بعقول أطفال قُصَّر، سوف يصبحون في المستقبل القريب من المتعاطين للمخدِّرات، وهم لم يصلوا إلى سنِّ النضج والبلوغ بعد.
رأي أهل الاختصاص
للتعقيب على هذه القضية، تحدثنا مع الأستاذ المشارك والمختص النفسي والتربوي بجامعة الأقصى بغزة الدكتور فضل أبو هين، حيث ذكر أن حالة الفقر الشديد الناجم عن تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية والظروف القاسية التي تعاني منها الأسر بغزة جرَّاء تضييق الخناق الصهيوني على قطاع غزة وكمَّ الأعباء الهائل الملقى على أرباب الأسر أوجدَا حالة من التوتر والنزاع الأسري بين الآباء وأولادهم.
وعن استغلال الأطفال، أردف الدكتور أبو هين قائلًا: “عادة يتم استغلالهم بناءً على حاجة اقتصادية أو معيشية، أو بسبب تفكُّك أسري، حيث يندفعون لإشباع رغباتهم بشتى الطرق، وهي المدخل الرئيس لمن يتصيَّدهم مستغلًّا معاناتَهم”.
مبينًا أن الطفل إذا أدمن ذلك الطريق يصعب عليه التخلص منه، فحينما يكتشف أنه في مسلك خاطئ يصعب عليه التراجع، إما بسبب تهديدِ مَن يستغلُّه أو بسبب إدمانه له، فهي تؤثر سلبًا على سلوكه وعَلاقتِه بمن حوله، علاوة على استنزافه ماديًّا ومعنويًّا وراء إشباع رغبة التعاطي الجامحة”.
وقال الدكتور أبو هين: “تتعدد أضرار المخدِّرات على صحة الطفل النفسية والبدنية، والأسرة والمجتمع بأكمله، لذا يجب علينا زيادة الوعي بمخاطر هذه الآفة وانتشارها بين جميع الفئات العمرية، وتكاتف الجهود المكثفة لمعالجتها”.
ودعا الأهل إلى التقرب من أولادهم واحتوائهم ومنحِهم الحبَّ والأمان والرعاية والاهتمام وتشجيعِهم على التعبير عن أنفسهم والتحدياتِ التي تواجههم، ومعالجتِها أولًا بأول، وتثقيفِهم بضرورة عدم التفاعل أو عدم التعاطي مع أي شخص مجهول، خاتمًا بأن الوضع الاقتصادي ليس مسوِّغًا لارتكاب الأخطاء.
المجلس الاعلى للقضاء


تعليقات
إرسال تعليق